كان من الطبيعي أن يتحول موضوع التطرف إلى رأس الأجندة الديبلوماسية العربية، كما ظهر خلال قمة الرياض والأزمة القطرية الحالية، باعتبار أن هذا الموضوع -على عكس ما تتصوره بعض الدوائر الغربية- ليس مجرد تحدٍ أمني، بل لا يمكن النظر إليه في نطاق سردية الإرهاب بمعناه الضيق، بل هو في منطقتنا رهان جوهري يتعلق بمصير ومستقبل الدول والكيانات الوطنية.
نتيجة لحركية التطرّف انهارت بلدان محورية في المنطقة بدءاً من أفغانستان منذ أيام «طالبان»، ثم العراق وليبيا واليمن، ولا شك أن وجود التنظيمات المتطرفة في سوريا عقّد الملف السياسي لحركات المقاومة الشرعية، وهو الحال نفسه على الساحة الفلسطينية.
وفي كتابه الصادر مؤخراً بعنوان «في مواجهة محنة الإرهاب: سلطات الدولة»، يُبين الباحث الفرنسي «فرانسوا سانت بونت» أن الدولة الحديثة التي تشكلت تاريخياً للخروج من مأزق العنف والفتنة الأهلية، غدت عاجزة في مواجهة حركيّة الإرهاب الراهنة عن التصدي لأنماط العنف الجديدة من خلال آلياتها القانونية والمؤسسية، ومن ثم لجوئها إلى حلول ترقيعية مؤقتة غير مجدية في غالب الأحيان. ما يوضحه «بونت» هو أن ما يسمى بالإرهاب الإسلامي ليس جديداً على الغرب الذي عرف في السابق الحركات الدينية العنيفة التي كانت تتبنى الحرب المقدسة الكونية، ولذا فإن نموذج الدولة الوطنية الحديثة بلور تاريخياً آلية الحدود السيادية لحماية النسيج السكاني من هذه التنظيمات المستندة لمرجعية الدين المطلقة خارج أي ضبط إقليمي. إنه التصور الذي بنى عليه «هوبز» شرعية الدولة الحديثة بصفتها تؤمِّن حماية المجتمع من خطر «الموت العنيف»، بما يؤدي إلى تغير جوهري في مفهوم «الأمن» الذي انتقل من دلالة «طمأنينة النفس الداخلية» (كما في التقاليد اللاهوتية) إلى دلالة الحفاظ على الجسم الاجتماعي.لقد كان تدخل التحالف العربي في اليمن بقيادة السعودية والإمارات موجهاً بهذا الهم الاستراتيجي لانتشال وحدة وبقاء دولة عربية سيطرت عليها مجموعة راديكالية متطرفة، وهي الخلفية نفسها التي توجه موقف الكتلة التي تقود حالياً نواة النظام الإقليمي العربي الجديد في الساحات المتأزمة الأخرى.
الآلية الثانية الرئيسية الأخرى التي بلورتها الدولة الحديثة في هذا السياق، هي آلية المشاركة السياسية والحريات العامة لتأمين الكيان السياسي من الصراع الداخلي والعنف وفق مبدأ «الأمن القانوني» الذي يكرسه القضاء المستقل بصفته الحكَم في النزاعات القائمة.
ما نشهده راهناً، حسب «بونت»، هو إخفاق الآليتين معاً (الحماية الحدودية والحماية القانونية) في تجنيب المجتمع خطر أنماط العنف الجديد، ومن هنا الانتقال إلى بعض الحيل الجديدة في مواجهة الإرهاب الراديكالي، مثل التشريعات الاستثنائية، وتحديد منزلة للمحاربين «غير الشرعيين»، وزيادة دور الرقابة والعقوبات الاستباقية في المدونة القانونية.
وهكذا أصبح من الجلي أن الديمقراطيات الغربية تواجه حالياً مصاعب جمة في ضبط التوازن بين معياري الحرية والأمن، بحيث يحق التساؤل مع «بونت»: هل لا تزال الدولة الوطنية السيادية الحديثة صالحة لتأمين الوظيفة التي قامت عليها شرعيتها، أي الحفاظ على أمن الأفراد والمجتمع ضمن حدود جغرافية معترف بها وفق أنظمة قانونية ناجعة؟
إذا كان الكتاب الذي أشرنا إليه يتحدث عن خطر التطرّف والإرهاب على الدول القومية الغربية الصلبة والعتيدة، فماذا عن الدول العربية الهشة التي ليس لها في الغالب إرث تاريخي ولا مقومات بناء راسخ؟
إن الانهيار الذي عرفته بلدان المنطقة في السنوات الأخيرة كان نتاج حركيّة مزدوجة: أيديولوجيا راديكالية لا يمكن أن تتلاءم مع منطق الهندسة السياسية الحديثة، وتنظيمات مقاتلة تستخدم العنف الوحشي أداة للفعل السياسي والسلطة، والعلاقة بين طرفي الحركية جلية للعيان. الأيديولوجيا المتطرفة لا تعترف بفكرة الدولة الوطنية ولا بضوابط البناء السياسي التعددي في المجتمع، وهي قادرة على استغلال قنوات التمثيل والانتخاب الديمقراطي لافتكاك السلطة (كما حدث في بعض بلدان «الربيع العربي») بما يفسر عمق مأزق التحول الديمقراطي في العالم العربي، حيث الاختلال فادح بين مقتضيات التحرر السياسي والقوى الإقصائية الراديكالية المستفيدة من القنوات والآليات الإجرائية للديمقراطية التعددية. وهكذا يصبح نموذج الدولة الوطنية الليبرالية عاجزاً عن حماية المجتمع من العنف الذي تفرزه من داخل نظمها المؤسسية، وفي حال أي تعثر في المشهد الانتقالي يصبح بمقدور الجماعات المتطرفة الاستيلاء على السلطة بالعنف والتمرد، فتقضي كلياً على الكيان الوطني.
في كتابي «الثورات العربية: المسار والمصير»، الصادر بعد أشهر من الأحداث العاصفة التي مر بها العالم العربي عام 2011، نبّهتُ إلى مخاطر الانتقال السياسي وطالبتُ ببعض الحذر من المبالغة في التفاؤل بحركيّة التغيير التي بدت لي هشة وغير مأمونة. وفي هذا السياق أذكر أن إحدى الشخصيات السياسية الليبية المعروفة قالت لي أوانها إن مستقبل بلادها مضمون نتيجة لكفاءة نخبتها التي كانت مغتربة في أوروبا، وهي في غالبها من الوجوه الليبرالية المنفتحة، وقد قابلت الصديق الليبي في السنة الماضية ووجدته عاد إلى منفاه، وقال لي بإحباط شديد: «لقد دفعنا أحلى سنوات حياتنا في النضال من أجل تحرير شعبنا من استبداد القذافي لنضعه في قبضة استبداد الجماعات المتطرفة التي احتلت وعيه وشلت عقله، والفرق الوحيد هو أن الدولة نفسها اختفت وأصبح المطلب الوحيد هو استعادتها لا إصلاحها».